تابعى
وذات مرة سأل وفداً زاره من حمص عن واليهم عبد الله بن قرط ،فيقولون : " هو خيرٌ يا أمير المؤمنين ، والٍ ممتاز ، لولا أنه بنى لنفسه داراً فارهة ، سيدنا عمر قال : داراً فارهة يتشامخ بها على الناس ، بخٍ بخٍ لابن قرط ، ثم يوفد إليه رسولاً ويقول : ابدأ بالدار فاحرق بابها ، ثم ائتِ به إلي ، ويأتي هذا الرجل الوالي ، ولا يكاد أن يقبل على أمير المؤمنين حتى يأمره أن يخلع حُلَّته ( ثيابه ) ويلبس مكانها لباس الرعاة ويقول له : هذا خيرٌ مما كان يلبس أبوك ، ثم يتناول عصًا ، ويقول له : هذه خيرٌ من العصا التي كان أبوك يهشُّ بها على غنمه ، ثم يشير إلى الإبل ويقول له : اتبعها وارعها يا عبد الله ، ثم بعد حينٍ يستدعيه ، ويقول له معاتباً : هل أرسلتك لتشيد وتبني ، ارجعْ إلى عملك ، ولا تعُدْ لما فعلت أبداً" .
فما أراد من الولاة أن يكون لهم مظهر ، مرةً قال لواحد منهم: " بلغني أنه قد فشت لك فاشية ، أصبحت لك هيئةٌ في ملبسك ومسكنك ومطعمك ومركبك ليست لعامة المسلمين ، احذر يا عبد الله أن تكون كالدابة مرت بوادٍ خصب ، فجعلت همها في السمن وفي السمن حتفها ".
وهناك قصة أيضاً لغرابتها تكاد لا تصدق .
محمد بن سلمة يدخل على سيدنا عمر ورفع له أمرًا أنّ ابن سيدنا عمرو بن العاص ضرب رجلاً في مصر لأنه سبقه ، رفع هذا الأمر إلى سيدنا عمر ، أول شيء فعله عمر ، قال : أرسل أمير المؤمنين يدعو عمرو بن العاص وابنه محمداً ، وَلْنَدَعْ أنس بن مالك يروي لنا النبأ كما شهده، ورآه بعينيه ، قال :" فو الله إنا لجلوسٌ عند عمر وإذا عمرو بن العاص يقبل في إزارٍ ورداء ، فجعل عمر يتلفت باحثاً عن ابنه محمد ، فإذا هو خلف أبيه ، الاثنان أتيا من مصر ، أي من مسافة شهر ، فقال سيدنا عمر : أين المصري ؟ فقال المصري : ها أنا ذا يا أمير المؤمنين ، قال عمر : خذ الدُرة واضرب بها ابن الأكرمين ، ابن سيدنا عمرو بن العاص الذي تسابق مع هذا المصري ، والمصري سبقه ، فلم يرض بهذا الهون ، أمسك درةً وضرب بها هذا المصري الذي سبقه ، وقال له :أتسبق ابن الأكرمين ؟ يجب ألاَّ تسبقني ، قال عمر : خذ الدُرة ، واضرب بها ابن الأكرمين ، فضربه حتى أثخنه قال : ونحن نشتهي أن نضربه ( الصحابة )، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه ، وعمر يقول : اضرب اضرب ابن الأكرمين ، ثم أشار عمر إلى العصا وقال : أجلها على صلعة عمرو ، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه ، لو لم يكن ابنه لما ضربك ، فقال الرجل : يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت وضربت من ضربني ، قال عمر : أما والله لو ضربته ما حُلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه ، ثم التفت إلى عمرو ، وقال : يا عمرو متى استعبَدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".
متى ظهرت حقوق الإنسان ؟ في أعقاب الثورة الفرنسية ، كانت أوروبا في غياهب الجهل وال ظلم ، وقبل ألف وخمسمائة عام يقول هذا الخليفة العظيم : " متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ".
والي مصر يأتي مع ابنه ، يقطع مسافاتٍ شاسعة ، ليقتص عمر من ابنه لأنه ضرب هذا المصري ولا ذنب له إلا أنه سبقه ، ثم قال :" أجلها على صلعة عمرو .. لماذا ؟ لولا أنه ابنك لما فعل هذا ، فعل هذا بسلطانك .
وهذا فعله سيدنا عمر مع ابنِه ، حينما رأى إبلاً سمينةً ، قال : لمن هذه ؟ قالوا : هي لابنك عبد الله ، قال : ائتوني به ، فلما جيء به قال : لمن هذه الإبل ؟ قال : هي إبلي ، اشتريتها بمالي وبعثت بها إلى المرعى لتسمن فماذا صنعت ؟ قال : ويقول الناس : ارعوا هذه الإبل ، فهي لابن أمير المؤمنين، اسقوا هذه الإبل فهي لابن أمير المؤمنين ، وهكذا تسمن إبلك يا ابن أمير المؤمنين .. لماذا سمنت ؟ لأنك ابني . هو فعل مع نفسه هذا ، قال له : بِع هذه الإبل وخذ رأس مالك ورد الباقي لبيت مال المسلمين ".
مرةً تلقى شكوى ضد والٍ من ولاته ، اسمه سعيد بن عامر الجُمَحي ، فيها ثلاثةُ مآخذ ، أولها أنه لا يخرج إلى الناس حتى يتعالى النهار ، وثانيها أنه لا يجيب أحدًا بليل ، وثالثها أنه يغيب عن الناس كل شهرٍ يوماً فلا يرى أحداً ولا يراه أحد ، استدعاه عمر ، وواجهه بالشاكين ، وقال لهم : تكلموا ، قالوا : لا يخرج إلينا حتى يرتفع النهار ، فقال الوالي : والله يا أمير المؤمنين إني كنت أكره أن أذكر السبب ، ليس لأهلي خادم فأنا أعجن معهم عجيني ، ثم أجلس حتى يختمر ، ثم أخبز خبزي ، ثم أتوضأ وأخرج إليهم ، فأشرقت ملامح عمر ، قال : السؤال الثاني ، قالوا : لا يجيب أحداً بليل ، قال : والله إني كنت أكره ذكر ذلك ، إني جعلت النهار لهم ، والليل لي ، أي أن الليل يقضيه عبادةً لله عزَّ وجل ، فقال : اسألوه السؤال الثالث ، قال : إن له في الشهر يوماً لا يقابل فيه أحداً ، قال سعيد: ليس لي خادمٌ يغسل ثيابي ، ففي هذا اليوم أغسلها ، وأنتظرها حتى تجف ، ثم أخرج إليهم آخر النهار " ، سيدنا عمر ملأ قلبه السرور والغبطة ، بأن هذا الوالي على شاكلته ، وقد أعطى الأجوبة الكافية .
ألم يقل سيدنا عمر لرسول عامله على أذربيجان حين سأله : ألا تنام الليل ؟ قال : إني لو نمت ليلي كله أضعت نفسي أمام ربي ، الليل لله عزَّ وجل ، وإن نمت نهاري أضعت رعيتي " .
مرة أرسل سيدنا عمر والياً على حمص اسمه عمير بن سعيد ، مكث هناك عاماً ، وما أرسل له خراج حمص ، ولا تصل منه أنباء ، فقال عمر لكاتبه : اكتب إلى عمير فإني أخاف أن يكون قد خاننا ، وأرسل إليه يستدعيه ، قالوا : ذات يومٍ شهدت شوارع المدينة رجلاً أشعث أغبر ، تغشاه وعثاء السفر ، يكاد يقتلع قدميه من الأرض اقتلاعاً من طول ما لاقى من عناء وبذل من جهد ، على كتفه اليمنى جرابٌ وقصعة ، وعلى كتفه اليسرى قُربةٌ صغيرةٌ فيها ماء ، وإنه ليتوكأ على عصاً ولا يؤودها حمله الضامر الوهنان ، ودلف إلى مجلس عمر في خطواتٍ وئيدة ، قال : السلام عليك يا أمير المؤمنين، ويرد عمر السلام ، ثم يسأله ، وقد آلمه ما رآه عليه من جهدٍ وإعياء ، قال: ما شأنك يا عمير ؟ قال : شأني ما ترى ، ألست تراني صحيح البدن ، طاهر الدم، معي الدنيا أجرها بقرنيها ، كل الدنيا معي ، قال عمر : وما معك ؟ قال : معي جرابي ، أحمل فيه زادي ( أي خرج ) ، وقصعتي آكل فيها ، وإداوتي ( وعاء ماء ) أحمل فيه وضوئي وشرابي، وعصاي أتوكأ عليها ، وأجاهد بها عدواً إن عرض ، فوالله ما الدنيا إلا تبعٌ لمتاعي.
الآن يريدون غرفة سفرة ثمنها ثمانمئة ألف ، ألا يمكن غيرها بأقل من هذا ؟ وطقم استيل ، وغرفة نوم ، وهذا الطقم الفلاني اسمه كذا ، والحمام ، فهذه كل دنياه ، عصا ، وإداوة ، وجراب فيه قصعة ، هذه كل دنياه .
قال عمر : أجئت ماشياً ؟ قال : نعم ، قال : أولم تجد من يتبرع لك بدابةٍ تركبها ؟ قال : لا ، إنهم لم يفعلوا ، وأنا لم أسألهم ، قال : فماذا عملت فيما عهدنا إليك به ، مضى عليك سنة ، فأين أموال الولاية ؟ قال : أتيت البلد الذي بعثتني إليه ، فجمعت صلحاء أهله ، ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم ، (الصلحاء )، حتى إذا جمعوها وضعتُها في مواضعها ، ولو بقي لك منها شيءٌ لأتيتك به .
أخذنا المال من أغنيائهم ، ورددناه على فقرائهم قال عمر : أما جئتنا بشيء ؟ قال : لا ، فقال عمر وهو منبهر : جددوا لعميرٍ عهداً ، تمديد خدمة ، قال له : " هيهات ، تلك أيامٌ خلت ، لا عملت لك ولا لأحدٍ بعدك أبداً " كفاني ذلك ، لأنه لا يوجد مكاسب ، يظهر تألم من المجيء ، رجل في أعلى درجة من النزاهة ، سيدنا عمر كان على حق ، مضت سنة ، ولم يأت منه أخبار، ما شأنه ، وماذا جرى له ؟ .. قال له : هيهات تلك أيامٌ خلت ، لا عملت لك ولا أحد بعدك أبداً" ، أي تقاعدت .
مرة حدث أن أنزل بأحد ولاته جزاءً ، فانتهزت زوجته عاتكة ساعة من ساعات فراغِه وصفوِه، وشفعت للرجل ، ولم تزد على أن قالت : يا أمير المؤمنين فيما وجدت عليه ؟ ( أي ماذا فعل ؟ ) فانتفض سيدنا عمر وكأنما انهد من دين الله ركن ، وصاح فيها : يا عدوة الله ، وفيمَ أنتِ وهذا ؟ أي ما لكِ وهذا ؟ حسم موضوع تدخل النساء في شؤونه حسمًا كاملاً ، قال لها : يا عدوة الله وفيمَ أنتِ وهذا ؟ .
سيدنا عمر مرةً حج ، قال عبد الله بن عامر بن ربيعة : صحبت عمر بن الخطاب من المدينة إلى مكة في الحج ، ثم رجعنا ، فما ضُرِبَ لنا فسطاط ولا خباء ولا كان له بناءٌ يستظل به إنما يلقي كساءً على شجرةٍ فيستظل تحتها ، خليفة ليس له فسطاط ، ولا كساء ، ولا خيمة يستظل بها في أثناء السفر .
ويقول بشار بن نمير : وسألني عمر كم أنفقنا في حجتنا هذه ؟ قلت : خمسة عشر ديناراً ، قال: لقد أسرفنا في هذا المال . حجة بكاملها ، وسيدنا عمر تحت يديه كنوز كسرى وقيصر، ومعه أموالٌ طائلة ، وقال : لقد أسرفنا ، وقد أنفق خمسة عشر ديناراً .
يبدو من شدة تقشفه وخشونة طعامه أنّ أصحابه الخُلَّص تمنوا أن يمتع نفسه قليلاً ، فاجتمعوا ، وتدوالوا ، واتفقوا على أن يلتمسوا عنده أن يرفع راتبه قليلاً ، لأنه رفع رواتب كل من حوله إلا هو .
سيدنا عثمان رأى أن تُدفَع ابنته حفصة إلى أن تُلقِي عليه هذا الرجاء ، واستكتموها أمرهم ، وطلبوا إليها أن تستطلع أمر أبيها ، ذهبت حفصة إلى عمر متهيبة ، وأخذت تسوق الحديث بحذر ورفق قال عمر : من بعثك إلي بهذا ؟ قالت : لا أحد ، قال : بل بعثك بهذا قومٌ لو عرفتهم لحاسبتهم ، ثم قال لابنته : لقد كنتِ زوجةً لرسول الله ، فماذا كان يقتني في بيته من الملبس ؟ قالت: ثوبين اثنين ، قال : فما أطيب طعمةٍ رأيته يأكلها ؟ قالت : خبز شعيرٍ طريٍ مسرودٍ بالسمن، قال : فما أوطأ فِراشٍ كان له في بيتكِ ؟ قالت : كساء ثخين نبسطه في الصيف ، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه ، وتدثرنا بنصفه الثاني ، قال : يا حفصة فأبلغي الذين أرسلوكِ إلي أن مَثَلي ومثل صاحبيّ ، الرسول وأبي بكر كثلاثةٍ سلكوا طريقاً ، فمضى الأول ، وقد تزوَّد وبلغ المنزل ، ثم اتبعـه الآخر فسلك طريقه فأفضى إليه ، ثم الثالث ، فإن لزم طريقهما ورضي بزادهما أُلْحِق بهما ، وإن سلك غير طريقهما لم يجتمع بها .
أنت يا حفصة يا بنيتي ، كنت زوجة النبي كيف كان أثاث بيتكِ ؟ قالت : رداء نبسطه وننام عليه ، في الصيف بلا غطاء ، في الشتاء نصفه نتغطى به ، قال طعامه ؟ قالت : خبز شعير طريٍ مسرودٍ بالسمن، ولباسه ؟ قالت : ثوبين اثنين ، نحن ثلاثة ؛ سيدنا رسول الله ، سيدنا الصديق ، سيدنا عمر ، أول صاحب مضى إلى هذا المنزل وسلك طريقًا ، والثاني تبعه ، فإن سلكت الطريق نفسه التقيت بهما ، وإن حدت عن طريقهما لم ألتق بهما ، فأبلغي من أبلغك هذا الكلام .
شيء بالفعل لا يصدق ، قلت لكم في البداية : إننا أمام أحداث ووقائع وأخبار كالأساطير ، لكنها وقعت ، وإن دلت على شيء فإنما تدل على أثر الإيمان في نفس المؤمن ، نزاهةٌ ما بعدها نزاهة ، عدلٌ ما بعده عدل ، حرصٌ على الرعية ما بعده حرص .
كنـت قلت لكم من قبل : إن وفدًا جاء سيدنا عمر من البصرة فأول سؤال سأله : كيف الأسعار عندكم ؟ وكيف الأمطار عندكم ؟ يسأل من رحمته على رعيته .
أحد الولاة حمـل إليه مرة مالاً وفيراً من أحد الأقاليم ، فسأل عن مصدره وعن سر وفرته وكثرته ، وإذا لم يبعث أحدُ الولاة شك بأمره ، لكن هذا بعث الكثير ، فسأل عن مصدر وفرته وكثرته ، فلما علم أنه من الزكاة التي يدفعها المسلمون ، ومن الجزية التي يدفعها أهل الكتاب ، قال وهو ينظر إليها كثيرةً عارمة : إني لأظنكم قد أهلكتم الناس ، فقالوا : لا والله ما أخذنا إلا صفواً عفواً ، بشكل طبيعي ، قال : بلا سوطٍ ؟ قالوا : نعم ، عندئذٍ سُر ،فقال : الحمد لله الذي لم يجعل ذلك عليّ ، ولا في سلطاني " ، أيضاً الوفرة والكثرة حارَ فيها .
وأذكركم بالخطبة التي ألقاها حينما تولى الإمارة قال : " أيها الناس خمس خصالٍ خذوني بهن لكم علي ألاّ آخذ من أموالكم شيئاً إلا بحقه ، ولكم عليَّ ألا أنفقه إلا بحقه ، ولكم عليَّ أن أزيد عطاياكم إن شاء الله تعالى ، وإذا غبتم في البعوث فأنا أبو العيال حتى ترجعوا " .
هكذا أخذ عمر نفسه بهذه القواعد ، وأعلنها للناس صريحةً وقال: خذوني بها وحاسبوني عليها.
هذا إنسان أيها الإخوة يخاف الله عزوجل ، طبعاً كل عصر له ظروفه ، لكن الإنسان إذا اتقى الله عزَّ وجل يرى نفسه مندفعاً بشكلٍ عجيب إلى ورعٍ ما بعده ورع ، وخوفٍ من الله ما بعده خوف ، وحرصٍ على المصلحة العامة ما بعده من حرص ، والله سبحانه وتعالى نرجوه أن يلهمنا الخير ، وفي درسٍ قادم نتابع الحديث عن هذا الصحابي الجليل ، الذي هو من الخلفاء الراشدين الهادين المهدين ، الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم :" عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين المهدين عضوا عليها بالنواجذ ".
والحمد لله رب العالمين